الاقتصاد العسكري
تُنتِج الصناعات الحربية والهيئات الأخرى التابعة لوزارة الدفاع وللقوات المسلحة المصرية مجموعةً كبيرة من السلع والخدمات المُعدَّة للاستخدام المدني. وتشمل هذه البنية التحتية العامة والإِسكان والأجهزة المنزلية والسلع الاستهلاكية الأخرى والمواد والمكونات الكيميائية الصناعية والمركبات والمعادن الخامّ والمُحوّلة والخدمات الإدارية. تُقدِّم الحكومة النشاط الاقتصادي العسكري على أنه يُساهمُ في التنمية القومية ويولّدُ مداخيل للدولة ويكسِرُ الاحتكار ويدعم استقرار الأسعار في الأسواق المدنية.
بيد أن جدوى النشاط الاقتصادي العسكري محل تساؤل. تتمتّع الهيئات العسكرية بإعفاءاتٍ ضريبيةٍ وجُمركية واسعة وأسعار صرفٍ تفضيليّةٍ للعملات الأجنبية وأنواع أخرى من الدعم، وتحتفظ بجميع الأرباح في حين تُحوِّل الخسائر إلى خزينة الدولة. تُستخدم المداخيل لزيادة الرواتب العسكرية ومُشاركة الأرباح بين كبار الضباط وإنشاء البنية التحتية العسكرية، لاقتناءِ وصيانة الأسلحة التي لا تُغطّيها المُساعدة العسكرية الأمريكية. إن الإعفاء من الرقابة والتدقيق الماليين يَحوُل دون التحقُّق من الكلفة مقابل الفائدة من الإنتاج العسكري للسلع والخدمات العامة أو من كيفية استخدام مداخِيلها.
لا تُنتج الصناعة الحربية سوى التكنولوجيا العسكرية التقليدية أو المتقادمة ولا تُصدِّرُ شَيئًا منها تقريبًا، وغالبًا ما تكون خُطوط إنتاجها المدنية خاسرة. وتعتمد جميع الشركات والهيئات العسكرية على العقود الحكومية التي تُمنح على أساسٍ غيرِ تنافُسيٍّ. إن آلاف الضباط المُتقاعدين العاملين في شركات قطاع الأعمال العام والهيئات العامة والحُكم المحلي يوجِّهون العُقود لصالح الهيئات العسكرية، كما أَذِنَ الرئيس عبد الفتاح السيسي لتلك الهيئات بتشكيلِ الشركات التجارية للمنافسة في الأسواق المدنية. إن توسُّعها في مجالات العقارات والسلع والسياحة يُعطّل القطاع الخاصّ ويُزاحمه على الوصول الى القروض الائتمانية.
يراجع مجلس الدفاع الوطني البنود العامة فقط لميزانية الدفاع بحضور عددٍ قليلٍ من أعضائه المدنيين الرئيسين. ويقتصر الإشراف البرلماني على المصادقة على موازنة الدفاع كبندٍ واحدٍ. ويتمتع الرئيس وحده ووزارة الدفاع بالمعرفة والسيطرة على الصورة الإجمالية لتمويل قطاع الدفاع وإنفاقه. ويمنع القانون نشر أو مناقشة ميزانية الدفاع أو أية تفاصيلٍ أخرى باستثناء البيانات التي ينشرها الناطقون العسكريون الرسميون.
تُعدّ ميزانية الدفاع نسبةً متواضعةً من الناتج المحلي الإجمالي ومن ميزانيات الدولة العامة، لكنها لا تعكس المدى الكامل لتمويل وإنفاق قطاع الدفاع. توفر النشاطات الاقتصادية العسكرية وعقود الأشغال العامة والاستثمارات والمساعدات الخارجية والصادرات الحربية مداخيلًا خارجة عن الميزانية. ويبدو أنه يتم تغطية تكلفة اقتناء نُظُم الأسلحة الجديدة بواسطة التمويل العسكري الأجنبي الأمريكي أو قروضٍ من البنوك الأوروبية التي يتعين سدادها. ومن غير الواضح ما إذا كانت نفقات التدريب والصيانة والتحديث لهذه النُظُم على مدى حياتها، مُدرج ضمن تلك النفقات أم لا.
تنقل المؤسسة العسكرية نفقات الاستثمار والخسائر من شركاتها إلى الخزينة العامة، ولا تُحاسب على المداخيل المهدورة بسبب الإعفاءات الضريبية والجمركية العسكرية، وأسعار صرف العُملات الأجنبية الملائمة، وتكاليف الإنتاج المدعومة أو المجانية كاليد العاملة والطاقة والمياه. كما تستفيدُ القوّات المسلّحة من البنية التحتية ذات الاستخدام المزدوج التي يتم إنشاؤها على حساب المال العام، وتُثقل المعاشات العسكرية التقاعدية أيضًا إلى الميزانية العامة للدولة.
تحتفظُ وزارة الدفاع والهيئات العسكرية الأخرى بالمداخيل وفوائض الميزانية في صناديق تقديرية خاصة. ولا تقوم بفحص دفاترها المُحاسبية سوى هيئةٍ خاصةٍ تابعةٍ لوزارة المالية. وتنتج حوالي أربعٍ وسبعين شركة مملوكة من طرف المؤسسة العسكرية مُنتجات وخدمات دفاعية ومدنية بنفس الإعفاءات الضريبية والدعم والحماية التي تتمتع بها بقية المؤسسة العسكرية. وغالبًا ما يبدو أن رأس المال الاستثماري يأتي من هذه الصناديق الخاصة.
تهيمن الأشغال العامة على الاقتصاد العسكري وخاصةً الهيئة الهندسية للقوّات المسلّحة، التي زاد ربحها من طفرةٍ في عقود البناء منذ عام 2013. ويُموِّلُ جزءٌ من هذه المداخيل العلاوات والمكافآت العسكرية، وقد يُموِّلُ بناء بنية تحتية عسكرية واستيراد العتاد وصيانة المعدات.
للاقتصاد العسكري تأثيراتٌ متناقضةٌ. إذ تساهم الرواتب والمعاشات التقاعدية والمشتريات الدفاعية في الاقتصاد الوطني، كما أن مشاريع البنية التحتية العامة والإسكان من شأنها أن تُولد وظائف وأن تضفي القيمة المضافة. لكن، لا يوجد دليلٌ على أن الهيئات العسكرية أكثر كفاءةً من الشركات الخاصة، كما تعاني المشاريع التي تديرها المؤسسة العسكرية من التأخير والمحسوبية والتبذير، فهي تعتمدُ على التعاقد غير التنافسي وتُزاحم المنافسين المدنيين وتُعرقلُ الابتكار.
ويرتبط خطرُ الفساد المرتفع للغاية بعقودٍ فيها تحايل مُحتمل وأخذ عمولات غير قانونية وإساءة استخدام أصول الدولة واستخلاص الرسوم والرشاوي غير القانونية مقابل ترخيص استخدام أو إعادة تصنيف الأراضي التي تسيطر عليها وزارة الدفاع. يبدو أن فرض الرسوم والرشاوي غير الرسمية لتقديم الخدمات الروتينية أمر شائع. ولا تشمل صلاحية هيئة الرقابة الإدارية ذات النفوذ القوي التدقيق بالمؤسسة العسكرية، ويرأس هذه الهيئة ويتكون الفريق العامل بها بشكل كامل تقريبا من ضباطٍ عاملين ومتقاعدين من القوّات المسلّحة.
إن الاختلال في توازن العلاقات العسكرية المدنية يحرم القوّات المسلّحة من الاستفادة من التحديات الجادة التي من شأنها تحسين قدُراتها وأدائها وتطوير استجابة أكثر فعالية للتهديدات والتحديات التي تواجهُ الأمن القومي. يؤدي اختلال التوازن هذا إلى غياب حافز المساءلة داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، مما يعيق المراقبة والتقييم الرُوتينيّيْن اللذان من شأنهما أن يُعزّزا استخلاص الدروس والمبادرات القيادية والاستقلالية العملياتية. كما تقاوم القوّات المسلّحة نصائح مقدّمي المساعدة العسكرية الأجانب، مما يُعيق تطوير المهارات ومواكبة التطورات العالمية في الشؤون العسكرية.
وتُركّزُ القوّات المسلّحة على العقود بدل التركيز على اكتساب قدرة تخطيطٍ استراتيجيٍّ عسكريٍّ حقيقية، وتظهر مهاراتٍ محدودةٍ في مجال صيانة وإصلاح وتحديث المعدات ونُظُم الأسلحة. ويعكس الفشل الذريع والمستمر لعشر سنواتٍ في حلّ التمرّد المسلح الصغير في شمال سيناء هذه العيوب. كما يعتقد الضباط العسكريون الأجانب المسؤولون عن العلاقات العسكرية الثُنائية مع القوّات المسلّحة أن هذه القوّات لن تكون قادرةً حتى على القيام بعملياتٍ تقليديةٍ واسعة النطاق.
تتلقّى القوّات المسلّحة التمويل والموارد الكافية، سواءً من ميزانية الدولة أو من المساعدات الخارجية أم من النشاطات الاقتصادية العسكرية. لقد خصّصت إدارة الرئيس السيسي اهتمامًا سياسيًّا كبيرًا وموارد مادية لتطوير البنية التحتية العسكرية والحصول على نُظُم قتاليةٍ رئيسةٍ. كما تم استيراد أسلحةٍ بقيمة 8.8 مليار دولار تقريبًا بين عامي 2014 و2019. وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف قيمة الاستيراد للسنوات الخمس السابقة، مما يجعلُ مصر ثالث أكبر مستوردٍ للأسلحة في العالم.
في غياب عمليةٍ نظامية للقيام بمراجعة شاملة للدفاع الوطني، يتعذر على مصر تحديد احتياجاتها العسكرية وقياس مدى فاعلية هيكلية القوّات المسلّحة وعقيدتها القتالية ومُعدّاتها. ويزيد الغموض حول تمويل الدفاع وإنفاقاته إلى جانب الافتقار إلى الكفاءة المدنية في شؤون الدفاع، من صعوبة مراقبة وتقييم فعاليّة التكلفة في المجال العسكري. وينطبق هذا أيضًا على الصناعة الحربية المحلية التي تُنتج الأسلحة والذخائر ذات التكنولوجيا التقليدية فقط وتفتقر إلى القدرة على التأقلم الفني والابتكار تلبيةً لاحتياجات القوّات المسلّحة.
غالبًا ما تُفضل القوّات المسلّحة الحسابات السياسية والولاءات الشخصية على الكفاءة في اختيار الضباط للترقية أو التعيينات القيادية. ويُقوّض هذا الاحترافية العسكرية والقدرة على تقديم محصلات دفاعيةٍ وطنيةٍ فعالة. ويُثبطُ التركيز على الولاء والطاعة والتعلق الصارم بالتسلسل الهرمي من روح المبادرة والابتكار، مما يجعل القوّات المسلّحة غير قادرةٍ على الاستفادة من الإمكانيات الكاملة للضباط العسكريين المنتمين إلى الرتب المتوسطة والصغرى والاستخفاف بقيمة المنتسبين.
يُركّزُ تدريب الضباط بشكلٍ مفرطٍ على المهارات الفنية، ويعدُّ التعليم العسكري وسيلةً لتأمين الترقيات والوظائف المكتبية أكثر منه تطوير القدرة القيادية. وتتبع التمارين والمناورات التدريبية الخطوات المحددة سابقًا بصرامة عالية، مما يقوّض هدفها الأساسي المتمثل في الاستعداد لظروفٍ قتاليةٍ واقعيةٍ. وترفض المؤسسة العسكرية أية مشاركةٍ مدنيةٍ في شؤون الدفاع، مما يحرم القوّات المسلّحة من قُدراتٍ هامةٍ تشمل قدرات التخطيط والتحليل القائمين على البيانات. كما أن عدم الانفتاح على التدقيق والتغيير قد يُفضي أيضًا إلى ضعف الاستفادة الفعالة من الخبرة الدفاعية التي يوفرها مقدمو المساعدة العسكرية الأجانب.