في سياق نظام لبنان السياسي الطائفي، للتقييم الاحترافي لاحتياجات الدفاع الوقع الأكبر في تشكيل تنظيم الجيش وقُدراته العملياتية. إن التطوير الاحترافي العسكري ذو مغزى، لكنّه مُقيّدٌ بالحصصِ الطائفيّةِ وبرغبةِ النُخَبِ السياسية في منعه من التطوّر ليصبح مؤسسة قادرة على الحدّ من استقلاليتها. إن الأخلاقيات المهنية العسكرية قوية، وإن كانت عُرضة للتآكل في حالة الصراع الشديد أو الطويل بين الطوائف. إن نظامي القضاء العسكري والمدني مُنفصلينْ إلى حدٍّ كبيرٍ، وباتت محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية نادرة، أكثر فأكثر. يُساهم التعليم العسكري في تطوير الاحترافية واستقرار العلاقات العسكرية المدنية.
تُقوّضُ العلاقات العسكرية المدنية تطويرَ القُدرات العسكرية. ويَفتقِرُ المدنيون عُمومًا إلى المعرفة والتدريب اللاّزميْن في شُؤون الدفاع، وكثيرًا ما تُمارس شبكاتِ المحسوبية الطائفية والزبائنية تأثيرًا غير مرغوب به في الأداء الروتيني للجيش. كما أن المُراجعات التي تُجريها المؤسسة العسكرية في مجال الدفاع لا تشارك فيها الجهات المدنية. ويقوم الجيش بالتخطيط الاستراتيجي العسكري وتطوير العقيدة وتقييم القُدرات، لكنه لا يشارك في وضع سياسة الدفاع أو التخطيط الاستراتيجي الوطني، اللذين يُعَدّا من اختصاص المدنيين في الحكومة.
ومع ذلك، لا تعمل أيٌّ من القُوى السياسية الطائفية المُتنافسة بنشاط في سبيل تطوير الاحترافية وتنمية قُدرات القوّات المسلّحة. وتُجبِرُ هذه الانقسامات الجيشَ على وضع الاستراتيجيات العسكرية الوطنية التي تُركّز على التخطيط للحدّ الأدنى من ترقية القوّة العسكرية بدلًا من تصوّر طويل الأجل للدفاع الوطني. وتلعب الروابُط الشخصية والعائلية والجماعية دورًا حاسمًا في التعيينات في القطاع العام في جميع أنحاء لبنان، غير أن الجيش هو الأقلّ عرضةً للتدخّل السياسي مُقارنةً بمُؤسسات الدولة الأخرى.
ولا ترعى الدولة تشكيلاتٍ عسكريةٍ مُوازية خارج تسلسل القيادة النظامي، لكن حزب الله يُدير قوّةً مُستقلّةً لها تسلسل قيادي خاص بها، وذلك بتنسيقٍ وثيقٍ مع إيران. وتتم هيكلية التسلسل القيادي للجيش بناءً على احتياجات الدفاع بشكل أساسيّ. ويُحافظ في سلك الضباط على محاصصة مذهبية تساوي بين المسلمين والمسيحيين، ويتمّ توخّي الحذر، بشكلٍ غير رسميٍّ، لتحقيق التوازن في المناصب العُليا بين الطوائف، لكن هذا لا يُغيّرُ من احترامِ تسلسل القيادة.
ويتّسمُ نظامُ تخطيطِ الموارد البشرية والتنسيب والارتقاء الوظيفي بالشفافية ولكنّه يتبع معادلات جامدة، وذلك بسبب سعي الجيش لاستيعاب آثار السياسات الطائفية في البلاد. وكثيرًا ما تكون النتيجة تنافس الضباط على تعيينات مُناسبة محدودةٍ يُمليها نظامُ المُحاصصة الطائفية. ويقبلُ قطاعُ الدفاعِ المشورةَ من مُقدّمي المُساعدة العسكرية الأجنبية حرصًا منه على تحسين الوظائف والقدرات المؤسساتية، ممّا شمل سلسلةً من حلقات التخطيط والإصلاح مُنذ عام 2006.
إن الهُوية المؤسساتية للجيش قوية، وخصوصًا في الفروع القتالية، ولا تتآكل إلاّ في مُواجهة صراعٍ جماعي كبير. ويرتبطُ هذا التماسكُ المؤسساتي بالإجماع السياسي حول استخدام الجيش. ينحو الجيش إلى الديمقراطية، وإن لم تكن بالضرورة ليبرالية، ممّا يعني عمومًا أن الأوامر يُنظر إليها على أنها شرعية ما لم تُعرّض استقرار لبنان أو روح التعايش الجماعي السلمي للخطر. وفي حالات الشكّ، ستختارُ المؤسسة العسكرية عدم التحرك، ممّا يجعلها، في الواقع، مُتوافقةً في الغالب مع معايير الطّاعة.
تسود الجدارة الاحترافية في الإجراءات الداخلية وتتسم بالأهمية الحيوية في التعيينات القيادية، خاصّة في وحدات النُخبة، لكن نظام المُحاصصة الطائفية يلعب دورًا أيضًا، وخاصّة في ربط المناصب بالهوية المذهبية. وتُحافظ المؤسسة العسكرية على التوازن في التعيينات حسب الجدارة في ظل الضغوطات السياسية للحفاظ على الحِصَصِ الجماعية. وتُحاول الجهات الحزبية والطائفية خلق ولاءاتٍ مُوازية في داخل الجيش، كما هو الحال في مؤسسات الدولة الأخرى، لكن المؤسسة العسكرية نجحت إلى حدّ كبير في ثني هذه المحاولات، خاصّة بعد انسحاب القوّات السورية في عام 2005.
ويعتقد العسكريون بعدم وجود تحيّزٍ في الرواتب والترقيات والتكليف بالمهامّ، لكن هناك حالات عرضية من المحسوبية. كما أن هناك تصوّرًا بأن اللجوء إلى الفساد لزيادة الدخل يتغاضى عنه في هيئات إنفاذ القانون وقوى الأمن الداخلي ولكن ليس في المؤسسة العسكرية. وتُفضّل المؤسسة العسكرية عامةً أن تنأى بنفسها عن السُلطات المدنية التي تعتبرها طائفية أو غير كُفؤة أو خاضعة لتأثير أجنبي وحزبي، وستسعى إلى التهرّب من تنفيذ الأوامر التي تراها غير شرعية أو مُنحرفة سياسيًا أو جماعيًا.
يعتقد العسكريون، عُمومًا، أن رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية غيرُ مُنصِفَة بالمُقارنةً مع ما يتقاضاه نُظراؤهم العاملون في القطاع المدني، ولكنهم يُدركون أيضًا أن ظروف خدمتهم أفضل عُمومًا من تلك التي يتمتّع بها المواطنون المدنيون العاديون. ويزداد شعورهم بعدم المُساواة عند إجراء مُقارنةٍ مع القطاع الخاص. يسعى مُقدّمو المُساعدة العسكرية الأجنبية، وخاصّة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بنشاط لتعزيز الاحترافية في حدود النظام السياسي الطائفي، ويتقبّلُ الجيش القدرة على التشغيل المُتبادَل والثقة بالنفس التي تُرسّخُها هذه المُساعدة.
إن الفصل في اختصاص كل من المحاكم المدنية والعسكرية واضح ويُحَافَظُ عليه عمليًّا، لكن تستمرّ مُحاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية بتُهمة ارتكاب جرائم تتعلّق بالأمن الوطني أو الإرهاب. ومع ذلك، فإن هذا استثناءٌ وليس قاعدةً. ويشكو العسكريون أحيانًا أنه على الرغم من خضوعهم لنفس القوانين المدنية التي يخضع لها المُواطنون، إلاّ أنهم يخضعون أكثر إلى التطبيق الفعلي للقانون. وفي الوقت ذاته، يلجأ الجيش في بعض الأحيان إلى المحاكم العسكرية ليحمي العسكريين من المُلاحقة القضائية المدنية.
وتلعب المُراجعة القضائية دورًا هامِشيًا فقط في القضاء العسكري. هذا، ويسعى القُضاةُ العسكريون إلى التمسّك بسلوك عسكري احترافي، لكن العديد منهم يخدمونٍ لفتراتٍ قصيرة خارج تخصّصهم الأساسي ونادرًا ما يتحدّون السياق القانوني القائم. إن قواعد الاشتباك واضحةٌ ومُطبّقةٌ ويتم التدرّب عليها وفقًا لخُططِ التدريب السنوية، لكن لا تتمّ مُراجعتها بشكل دوري لضمان استمرار ملاءمتها. تندر حالات الإساءةُ في استخدام السُلطة والقيام بانتهاكات جسيمةٍ، وحين تحدُث يكون ذلك غالبًا بسبب الظروف القاهرِة التي قد تنشأ أثناء العمليات المكثَّفة أو مهمات الحفاظ على النظام العام.
ويعتبر الجيش نفسه حِصْنًا منيعًا تُطبّقُ فيه المعاييرُ القانونية والأخلاقية، ويتم استيعابُ القيم في صفوفه. ويبقى السلوك العسكري مُحافظًا على حدودٍ تكتيكيّةٍ وسياسيّةٍ واضحةٍ. وقد تمّ إدماج القانون الإنساني الدولي في التدريب على جميع المُستويات وفي الخُططِ والأوامر العملياتية، وأُضْفِيَ عليه الطابعُ المؤسساتي ليُفعَّل في القانون العسكري والمعاهد العسكرية، لكن الانتشار العملياتي شبه المُستمر قد أعاق مأسسته منذ عام 2006.
أصبح التدريب في القانون الإنساني الدولي روتينيًّا، كما صار التدريبُ على حقوق الإنسان جزءًا لا يتجزّأ من برامج المُساعدة الخارجية والالتزامات التدريبية المُموّلةِ. يُساهم هذا، إلى جانب حرص المؤسسة العسكرية على مراعاة الرأي العام، بانخفاض معدل الخسائر والضحايا في صُفوفِ المدنيين خلال الاحتجاجات الشعبية والتحركاتِ المدنيةِ. ويُعزّز مُقدّمو المساعدة العسكرية الأجانب بقوّة الالتزام بحقوق الإنسان ومدونات السلوك القانونية الأخرى، وقد خضع الجُنود الذين انتهكوا مدونات السلوك أو قواعد الاشتباك هذه للمُساءلة قبل السماح لهم بالمُشاركة في برامج التدريب الأجنبية.
يعتمد الدخول إلى المعاهد والمدارس العسكرية على معايير شفّافة وعلى الجدارة، لكن هناك أخبار تفيد أن بعض كِبار السياسيين يتحايلون على الإجراء النظامي لإلحاق أنصارهم في الكلية الحربية. وقد قام الجيش بكبح هذا السلوك منذ عام 2017، لكن المحاصصات الطائفية لا تزال تُؤثّر على الالتحاق بالمدارس العسكرية. ويحظى التعليم العسكري، وخاصّة في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، بتقديرٍ كبيرٍ لغايات الارتقاء المهني والترقيات. غير أن غياب مخارج مؤسساتيةٍ لتسريح الضباط الأقلّ كفاءة يخلق توقّعًا بالارتقاء التلقائي إلى رتبة عميد وإلى التضخم في عدد الضباط فوق رُتبة مُقدّم.
لقد زاد الجيش باستمرار تمويله للتعليم العالي في صُفوفِ الضباط، لكن من المُرجّح أن يتلقّى هؤلاء الضباط قدرًا أكبر من التعليم العسكري من المؤسسات العسكرية الأجنبية أو المدنيين الأجانب المختصين في شؤون الدفاع، مُقارنةً بالمؤسسات غير العسكرية والخُبراء داخل لبنان. ويتبنىّ التعليم العسكري القيم المدنية واحترام المدنيين عمومًا، ولكن التنافس الزبائني والسعي وراء الريع في صفوف الطبقة السياسية اللبنانية يُقوّض احترام الجيش للسُلطة المدنية.
وتعود مرجعيّةُ نظام التعليم العسكري إلى اللواء فُؤاد شهاب، الأب المُؤسّس للمُؤسسة العسكرية، بصفته مصدر إلهام لهُويّتها ولتطوير الاحترافية والتماسك وباعتبار الطائفية والسياسة والفساد غريبة على الأخلاق العسكرية. هذه الهُوية الاحترافية قوّية بشكلٍ خاص بين صغار الضباط والرتباء. لقد حاول لبنان، دون جدوى، تأسيس مساق مختصّ في الدفاع الوطني. ويَحضرُ بعض الضباط وعدد قليل من المسؤولين المدنيين مثل هذه البرامج التدريبية في الخارج.
وهناك عدد من كبار الضباط لم يحضر الدورات التدريبيّةً في مجال القيادة والأركان، أو حتى دورات الدفاع الوطني. وقبل عام 2000، كانت الغالبية العُظمى من المهارات المُكتسبة في التعليم والتدريب العسكري تصلح فقط للاستخدام العسكري وليس المدني، علمًا أن الخبرات المكتسبة في الحوْكَمة والمجالات الفنية القابلة للتطبيق المدني قد زادت منذ ذلك الحين. ويعمل نظام التعليم العسكري على تطوير مهاراتٍ أكثر قابليّة للانتقال في مجالات أخرى، نتيجة للمُساعدة العسكرية الأجنبية.
س1 - الكفاءات العسكرية
|
س2 - الأخلاقيات المؤسساتية
|
س3 - القضاء العسكري
|
س4 - التعليم العسكري
|