إعادة ضبط الانخراط الأمني الأميركي مع الدول العربية
إعادة ضبط الانخراط الأمني الأميركي مع الدول العربية
29 حزيران/يونيو 2021
فريدريك ويري وميشيل دَن

سيساعد تبني نهج ذو تركيز أقل على الجانب العسكري من قبل الولايات المتحدة في تعاملها مع الدول العربية على تلبية الاحتياجات الهامة في المنطقة وبطريقة تخدم المصالح الوطنية الأمنية الأمريكية في ذات الوقت.

قبل الدعوات التي انطلقت مؤخرًا لتقليص حجم الوجود العسكري الأميركي في البلدان العربية وإنهاء الحرب في العراق وأفغانستان بوقت طويل، كانت السياسة الأمنية الأميركية بحاجة إلى إعادة ضبط وتصحيح واسع النطاق. فقد أسهمت المستجدات الأخيرة، مثل صعود الصين على الساحة الدولية، والتحديات غير العسكرية مثل جائحة كورونا والتغيّر المناخي، واستقلال أميركا المتزايد في مجال الطاقة، والتطورات التكنولوجية العسكرية السريعة مثل الذكاء الإصطناعي، في تسليط الضوء بقوّة على طبيعة المقاربات التاريخية للنهج القائم على الجانب العسكري. ففي هذا المشهد المتحوِّل، تبدو هذه المقاربات قديمة ومنتهية الصلاحية، ومن مخلّفات زمنٍ بعيد.

وعد لم يتحقق

ولا يقتصر الأمر على انتهاء الصلاحية فحسب، بل إن الانخراط الأميركي ذا الطابع الأمني الشديد في الشرق الأوسط، والمتجذّر في شحنات الأسلحة التقليدية، وفي القواعد العسكرية بشكلها المعهود، والروابط الثنائية مع دول عربية مستبدة لم يستوفِ مطلقًا وعوده. كما ولم يجعل هذا الانخراط المنطقة أكثر أمانًا، بل أفسح المجال لتدخّل دول عربية حليفة للولايات المتحدة عسكريًا في اليمن وليبيا على نحوٍ لم يساهم في تعزيز المصالح والقيم الأمريكية، ناهيك عن تسبّبه بكوارث على المستويَين الإنساني والاستراتيجي. ولم ينجح أيضًا في عزل إيران عن المنطقة أو في ردع تدخّلها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها من الدول.

 كذلك لم تنجح المساعدات الأمنية في تعزيز المؤسسات العسكرية العربية الشريكة بما يُمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم بمصداقية دون الحصول على المساعدة من الولايات المتحدة، أو بما يمكّنهم من المشاركة، بطريقة مجدية، في عمليات متعددة الأطراف تقودها الولايات المتحدة. فتلك المساعدات لم تولّد، فيما عدا استثناءات قليلة، تأثيرًا أميركيًا ملموسًا على سلوك حلفاء الولايات المتحدة على المستويَين الداخلي والخارجي. لا بل أسوأ من ذلك، غالبًا ما تسببت، هذه المساعدات، بتوريط الولايات المتحدة في الانتهاكات التي يرتكبها أولئك الحلفاء محليًا، وجعلت صنّاع السياسات الأميركيين يترددون في انتقادهم خوفًا من خسارة القدرة على نشر قوّات أميركية في تلك البلدان.

تنافس القوى العظمى

غالبًا ما استُخدِم التحدّي الذي يطرحه التنافس بين القوى العظمى، وبصورة خاصة توسّع النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط، تبريرًا كي تُبقي أميركا على وجودها في لعبة التسلّح الإقليمية. فقد تحوّل تقريبًا جميع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة نحو مورِّدين خارجيين آخرين، بما في ذلك دول أوروبية فضلًا عن روسيا (وبدرجة أقل الصين)، وكثيرًا ما يهدّدون بالإقدام على هذه الخطوة التي يستخدمونها ورقةً للضغط على واشنطن أو للتعبير عن امتعاضهم من السياسات الأميركية. ولكن الحلفاء العرب لا يزالون يدركون أنه ليس بمقدور المورّدين الآخرين منحهم ضمانات أمنية شاملة، وعند شراء أسلحة من أطراف ثالثة، فهم غالبًا ما يُبدون استياءهم من تدنّي جودة  المواد، وغياب الخدمة المستمرة والمتابعة، ومشكلات التكامل والتشغيل المتبادل.

ولكن الأهم أنه في حالة التنافس مع الصين، تخسر الولايات المتحدة المعركة من خلال تمسّكها بأسلوبها القديم. ومما لا شك فيه أن الصينيين يصدّرون الأسلحة، لا سيما الطائرات المسيّرة، إلى المنطقة، إلا أنهم يركّزون بصورة أكبر على تسويق أنفسهم في صورة مورِّدي التقدم الاقتصادي والتحديث، فيما يتركون لأميركا تحمّل العبء الأمني من خلال خوضها مغامرات عسكرية باهظة التكلفة واحتفاظها بوجود عسكري يبدو وكأنه سيدوم إلى الأبد.

مستقبل ما بعد النفط

ولكن الحجّة المقنعة الأخرى خلف تعذّر الاستمرار في تطبيق النهج الأمريكي الأمني القائم على الوضع الراهن في الشرق الأوسط غير مرتبطة بعوامل خارجية عن المنطقة مثل تعدي القوى العظمى، أو التطورات التكنولوجية، أو حتى الحاجة الملحّة إلى الإصلاح والتجديد داخل الولايات المتحدة.  بل إنها تنبع من التغييرات الهائلة التي تحدث داخل الدول العربية، أي النَزعات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والديمغرافية التي كانت وراء اندلاع الانتفاضات العربية في عامَي 2011 و2019، والتي تسارعت وتيرتها في حالات كثيرة بفعل الصدمات الارتدادية التي أحدثتها جائحة كورونا في عامي 2020 و2021.

ويتقدم هذه التحديات التراجع الطويل الأمد في الطلب العالمي على النفط وتأثيره على النموذج الريعي الذي تعتمد عليه جميع الدول العربية تقريبًا سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. باختصار، لن تتمكّن الأنظمة العربية قريبًا من الاعتماد على توزيع الثروة الهيدروكربونية كي تستمر في المحافظة على نفسها. وغالب الظن أن النتائج التي ستتمخض عن نهاية حقبة النفط التي ترتسم في الأفق، والتي تُضاف إلى الضغوط التي تسببت بها الجائحة الحالية، ستكون ذات تداعيات عميقة على الاستقرار الاجتماعي، بما يُقوِّض القواعد السلطوية المطبَّقة حاليًا في الحكم والقائمة على المحسوبيات وإحتواء والإكراه والقطاع العام المتضخَّم بدلًا من ممارسة الحكم من خلال إشراك الجميع، وتحقيق الإنتاجية الاقتصادية، وتطبيق عقد اجتماعي حقيقي.

لكن الحكّام العرب، مع وجود استثناءات قليلة، تقاعسوا عن إجراء التغييرات الضرورية لبناء اقتصادات منتجة ومنوَّعة، ناهيك عن إرساء حوكمة متجاوِبة وخاضعة للمساءلة. فمستويات الإنفاق الدفاعي المرتفعة على نحوٍ استثنائي والتي تُخصَّص في معظم الأحيان لشراء منتجات باهظة التكلفة وتهدف لتعزيز هيبة الأنظمة، مثل المقاتلات المتطوّرة، تدل على أنهم لا يزالون ينظرون إلى الأمن القومي من منظارٍ ضيّق عفا عليه الزمن، مع تركيزهم على ضمان بقاء أنظمتهم والمشاركة في لعبة القوى الإقليمية. وقد استمرت الولايات المتحدة، من جهتها، في تغذية الشهيّة للسلاح، إلا أن ما أقدمت عليه إدارة الرئيس جو بايدن، من خلال وقف شحنة أسلحة مقترَحة إلى السعودية جرى الاتفاق عليها خلال عهد دونالد ترامب، تشير إلى احتمال حدوث تغيير.

إعادة توازن الانخراط

من شأن اعتماد الولايات المتحدة نهج جديد، أقل تركيزًا على الجانب العسكري في تعاطيها مع البلدان العربية، أن يساهم في تحقيق الاستقرار من خلال المساعدة على تلبية الاحتياجات الملحة للمنطقة بطريقة تخدم أيضًا مصالح الأمن القومي الأميركي. الولايات المتحدة غير ملزَمة بمساعدة البلدان العربية على السير باتجاه اقتصادات ما بعد النفط، عبر الاعتماد على رأس المال البشري والتكنولوجيا، ولكن القيام بذلك سيخدم المصالح الأميركية من خلال الحد من نزعة المنطقة إلى توليد نزاعات مسلّحة ومجموعات مسلّحة وموجات من الهجرة. فتحويل الموارد الأميركية نحو معالجة بعض أسوأ الآثار المترتبة عن التغير المناخي مثلًا، كشح المياه وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة، قد يتيح تحقيق منافع أكبر من تلك التي يؤمّنها تزويد الدول العربية بمزيد من نُظم الأسلحة الهجومية التي لن تستخدمها تلك الدول، أو أسوأ من ذلك قد تستخدمها أحيانًا في ارتكاب المساوئ.


فريدريك ويري باحث أول في برنامج الشرق الأوسط بمؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي. ميشيل دَن هي مديرة وباحثة أولى في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. تشارك كلاهما في تحرير تقرير من صفقات الأسلحة إلى المقاربة الشاملة: إعادة ضبط الانخراط الأمني الأميركي مع الدول العربية.


 
آخر التغريدات


تواصل معنا