دور المؤسسة العسكرية المصرية في رأسمالية الدولة
دور المؤسسة العسكرية المصرية في رأسمالية الدولة
01 حزيران/يونيو 2021
يزيد صايغ

سعى الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مواءمة الدولة المصرية وقوّاتها المسلّحة لاستراتيجيته الاستثمارية مع زعم استمرار الالتزام باقتصاديات السوق الحرة.

أدى تدخل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري إلى ظهور صيغة جديدة من رأسمالية الدولة. قد يوّلد هذا النهج نموًا اقتصاديًا على المستوى العام ويحسّن كفاءة المالية العامة، لكنه سيعزز أيضًا قدرة الدولة على الإمساك بزمام الأمور بدلاً من تعزيز سياسة السوق الحرة، إذ تسعى إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الاستثمار في القطاع الخاص، لكن وفقًا لشروطها الخاصة فقط.

تتجلّى هذه الاتّجاهات في توسيع وتحويل النشاط الاقتصاديّ العسكريّ في خمسة قطاعات تخدم نموذج رأسماليّة الدولة الآخِذ بالظهور تحت إدارة السيسي، وهي: التطوير العقاريّ، وإنشاء محاور للصناعة والنقل، والأنشطة الاستخراجيّة للموارد الطبيعيّة، والعلاقات مع القطاع الخاصّ، والجهود المَبذولة لزيادة الكفاءة الماليّة للدولة مع السعي وراء الاستثمار الخاصّ للمساعدة في رَسمَلَة القطاع العامّ. قد أدى هذا الأمر إلى "لعبة الكشتبان" لتمويل رأسماليّة الدولة، حيث تلعب المؤسّسة العسكريّة دورًا مركزيًّا في النموذج برمّته، مصحوبة بتبعات لجهود السيسي في الحفاظ على اقتصاد سياسيّ ريعيّ في ظلّ عدم توفّر الريع الكافي.

النموذج الجديد لرأسمالية الدولة 

يستخدم السيسي المؤسسة العسكرية لاستعادة مركزية الدولة في وضع معايير صنع القرار من قبل جميع الفاعلين الاقتصاديين وتطويع القطاع الخاص لاستراتيجيته للاستثمار الرأسمالي. إنّ القيمة الصافية للأصول والمداخيل الاقتصاديّة الّتي تملكها أو تسيطر عليها المؤسّسة العسكريّة أقلّ بكثير ممّا يتصَوّره كثيرون، علمًا أنّها باتت الآن أهمّ بكثير ممّا كانت قبل عقد من الزمن. فإنّ نموّ الأموال التقديريّة الّتي تسيطر عليها وزارة الدفاع يتيح لها زيادة الامتيازات والمنافع وتعزيز الولاء لها بين جنود الصفّ، وتكوين صندوق احتياطيّ يمكن من خلاله تمويل وتطوير البنية التحتيّة العسكريّة واقتناء الأسلحة، والاستحواذ على وسائل إعلام مختارة، وتحفيز التبرّع إلى هيئات مختلفة مثل صندوق تحيا مصر للرعاية الاجتماعيّة والتنمية، وهو المُفضَّل لدى السيسي.

 هذا لا يعني أنّ عناصر مقاربة السيسي مرتبطة ببعضها البعض ضمن استراتيجيّة متكاملة ومتناسقة. بالأحرى، إنّ ما تتشارك فيه هذه العناصر هو أنّها برمّتها مدفوعة بتصميمه على تأمين رأس المال، واقتناعه بأنّ توظيف القدرات المركّزة للدولة يشكّل الاستراتيجيّة الأكثر فعالية لتحقيق ذلك، واستخدامه للمؤسسة العسكرية كرأس حربة لهذا المسار. والنتيجة الإضافيّة هي أنّ رأسماليّة الدولة الجديدة منحصرة في مسار تعميم دور المؤسّسة العسكريّة في الإدارة الاقتصاديّة وفي توليد الإيرادات، ليس بسبب أيّ إدراك اقتصاديّ أو فطنة تجاريّة قد تدّعيها، بل لأنها جهاز الدولة الأكثر ضمانًا سياسيًا وفي نفس الوقت الأقوى في مجال السلطة القسرية.

ونظرًا إلى افتقار مصر إلى الثروة الكافية القائمة على النفط والغاز للحفاظ على الاقتصاديات الريعية، تعيد رأسمالية الدولة المصرية تشكيل السياسة الطفيلية في استخراج رأس المال من الاقتصاد الأوسع. ولأن الإيرادات الضريبية للدولة آخذة في الانخفاض، فإن النمط الاستخراجي يدفع إلى الحاجة إلى مزيد من الاستخراج. ولا يبطئ هذا المسار التنازلي سوى الضخ المستمر لرأس المال من قبل الشركاء الأجانب، إلى جانب جهود السيسي لترشيد الاستخراج من قطاعي الأعمال المحلية العام والخاص. يعتمد السيسي بشكل متزايد على المؤسسة العسكرية لقيادة هذا الاستخراج. وقد يساعد نهجه هذا في تحقيق نمو اقتصادي على المستوى العام وتحسين كفاءة المالية العامة على المدى القصير، ولكن نتائجه الرئيسة تكمن في تعزيز وإدامة قبضة الدولة المصرية وفي تعميق نقص رأس المال في مصر في الوقت ذاته.

 لعبة الكشتبان

تظهر المؤسسة العسكرية في عهد السيسي كشريك كامل له في إعادة تشكيل الدولة الرَيعيّة على صعيد إدارَتها السياسيّة والبيروقراطيّة والاقتصاديّة. لقد ساهمت التحولات الهامة في السياسات والاستثمارات العامة الضخمة، والتي حدثت منذ وصول السيسي إلى السلطة، في استقرار الاقتصاد الكلي. لكن، بدلاً من اغتنام الفرصة لتنفيذ إصلاحات أعمق تدعم الانفتاح في الأسواق وفي الحياة السياسية، زادت إدارة السيسي رهانها على تكثيف الاستثمار في رأسمالية الدولة. وتُمكّن الجهات المانحة الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية السيسي من تجنب معالجة التناقضات الأساسية التي تقوض جهوده لمراجعة وترشيد الدولة الريعية في مصر.

يتولى ضبّاط القوّات المسلّحة، سواء كانوا في الخدمة أو متقاعدين، قيادة حملة السيسي النشطة لتوسيع رقعة سيطرة الدولة في جميع الميادين، ويستفيدون من ذلك في الوقت ذاته. لا يتمّ الآن تنفيذ أيّ مبادرة حكوميّة مركزيّة أو محليّة لاستصلاح الأراضي أو توسيع الزراعة أو بناء المدن الجديدة أو توسيع البنية التحتيّة المتّصلة بها، من دونَ قَدر من التشاور الرسميّ مع الهيئات العسكريّة. إنّ العديد من المحافظين وكبار المسؤولينَ على مستوى الوزارات أو المحافظات، المشاركين في الموافقة على المشاريع ومنح العقود وإصدار التصاريح، هم أيضًا عسكريّون متقَاعدون. كما أصبحت الموافقة العسكريّة إلزاميّة منذ عام 2014 في مجالات أخرى، مثل استخراج الثروة المعدنيّة من المحاجر والمناجم في جميع أنحاء البلاد.

 لا يقلّ دور المؤسسة العسكرية أهميّة في محاولة إحياء وإعادة تشكيل استراتيجيّة صناعيّة لإحلال الواردات. ينعكس هذا بشكل بارز، في المقام الأول، في أَمر حكومي صدر في حزيران/يونيو 2020، فرض على جميع مؤسسات الدولة التي تسعى إلى استيراد سلع أو خدمات من الخارج، أن تحصل على موافقة من الهيئة العامة للتنمية الصناعيّة أو وزارة الإنتاج الحربي. وفي المقام الثاني، تستثمر الهيئات العسكرية جهودًا كبيرة في إعادة إحياء أو بناء المصانع المملوكة للدولة، وخصوصًا، في قطاع النسيج، الذي يُقدّر أنّه يمثّل 17 في المئة من الناتج المحليّ الإجماليّ ويوظّف 1.2 مليون شخص (هذا إلى جانب المصانع العسكرية في قطاعات الإسمنت والصلب والأسمدة، حيث استحوذت على حصَص قد تصل إلى ربع الطاقة الإنتاجية الوطنية).

 ثمة احتمال أن تنتقل مصر تدريجيًا وبشكل متقطع، وحتى عن غير قصد، نحو وضع يصبح فيه الحفاظ على اقتصاد تسيطر عليه الدولة أمرًا غير ممكن. لكن في الوقت الحالي، لم يقم السيسي بشيء يغير وصف تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2019 لمصر، بأنها "تعاني مشاكل مزمنة تتمثل في ضعف الحوكمة والبحث عن الريع والعرضة للفساد والحضور المكثف للدولة في الاقتصاد." ما لم تحدث قطيعة جوهرية مع نمط تنظيم الحصول على الفرص والموارد الاقتصادية في مصر، سيظل السيسي ومن يخلفه في الرئاسة معرضين لتناقضات دولته القائمة على الاقتصاد الريعي وللبحث التنافسي عن الريع الذي تقوم به أجهزة الدولة ذاتها التي تستند إليها سلطته.

يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط ومدير برنامج العلاقات العسكرية المدنية في الدول العربية. وهو مؤلف "رأس الحربة الاقتصادیة لحراس النظام: دور المؤسسة العسكرية في تطور رأسمالية الدولة 3.0 في مصر."


 
آخر التغريدات


تواصل معنا